يوم التروية وأحكامه في الحج

يوم التروية: فضله، معانيه، وأحكامه في الحج

يُعد يوم التروية من الأيام العظيمة في الإسلام، وله مكانة رفيعة بين أيام شهر ذي الحجة، لما له من ارتباط وثيق بشعائر الحج التي تمثل الركن الخامس من أركان الدين. ويأتي هذا اليوم في الثامن من ذي الحجة، ويبدأ معه التحول العملي من الاستعداد الروحي والنفسي إلى الدخول في عمق مناسك الحج.

في هذا المقال سيتم تناول يوم التروية بالتفصيل من جوانب مختلفة: تسميته، معانيه، أحكامه الفقهية، ما يفعله الحاج فيه، وتاريخه، بالإضافة إلى مكانته الدينية والروحية في حياة المسلمين. كما سنتطرق إلى أبعاده الفقهية والتربوية، لنكشف عمق هذا اليوم وأهميته الكبرى في رحلة الحج.

تعريف يوم التروية

يوم التروية هو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، اليوم الذي يسبق الوقوف بعرفة، والذي يبدأ فيه الحجاج الانتقال من مكة المكرمة إلى مشعر منى استعدادًا لصعود جبل عرفة في اليوم التالي. سُمّي بهذا الاسم وفقاً لما جاء في كتب السيرة والفقه، لأن الناس كانوا يتروّون فيه بالماء، أي يجمعونه ويملؤون أوعيتهم استعدادًا ليوم عرفة الذي لم يكن تتوافر فيه المياه في الزمن السابق.

سبب التسمية ومعانيها

التسمية بـ”يوم التروية” لها دلالات لغوية وتاريخية عميقة، ويمكن تفسيرها من عدة أوجه:

1. التروية من الماء: وهو التفسير الأكثر تداولاً؛ إذ كان الحجاج في الماضي يتزودون بالماء من مكة في طريقهم إلى منى وعرفة، لأن تلك المشاعر لم تكن تتوفر فيها المياه الكافية.

2. التروية من التأمل والتفكر: حيث قيل إن سيدنا إبراهيم عليه السلام رأى في ليلته رؤيا أنه يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، فتروّى في أمرها وتفكر في تفسيرها إن كانت من الله أم لا، وكان ذلك في الثامن من ذي الحجة، وعندما أتى اليوم التاسع، عزم على تنفيذ الأمر.

3. التهيؤ والاستعداد: ويُقصد بذلك أن يوم التروية هو بداية التحرك الفعلي للحاج من الإحرام إلى مباشرة المناسك الكبرى، ولهذا سمّي كذلك لأن الحاج يتروّى، أي يستعد نفسيًا وبدنيًا وروحيًا ليوم عرفة وما يليه من شعائر.

الأعمال التي يقوم بها الحاج في يوم التروية

في هذا اليوم تبدأ مناسك الحج الفعلية لمن كان متمتعًا، فيُحرم من جديد بالحج من مكانه (وغالبًا يكون في مكة المكرمة)، أما القارن والمفرد فهما على إحرامهما من قبل. ثم يبدأ الجميع في التوجه إلى منى، وهو أول المناسك العملية.

فيما يلي خطوات الحاج في هذا اليوم:

1. الإحرام للحج:

   • يبدأ المتمتع بالإحرام من مكانه، بعد الاغتسال والتطيب ولبس ثياب الإحرام.

   • يُستحب التلفظ بالنية قائلًا: “لبيك حجًا”، ثم يشرع في التلبية.

2. الانطلاق إلى منى:

   • يتحرك الحجاج إلى منى في ضحى هذا اليوم بعد صلاة الفجر، ويُصلون فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء وفجر يوم عرفة قصرًا من غير جمع.

3. المبيت في منى:

   • يُستحب للحجاج المبيت في منى ليلة التاسع من ذي الحجة، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.

4. الذكر والدعاء والاستغفار:

   • يُكثر الحاج من التلبية والذكر والتسبيح والتهليل والدعاء، في استعداد روحي ليوم عرفة.

فضل يوم التروية

يوم التروية من الأيام العشر المباركة التي أقسم الله بها في سورة الفجر: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، وهذه الأيام أفضل أيام السنة كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

1. التهيئة ليوم عرفة: يوم التروية هو الباب الذي يُفتح للحاج للدخول في جو الحج الخالص، حيث يترك فيه الراحة والمألوف، ويتوجه إلى الله بالطاعة الكاملة.

2. الاقتداء بسنة النبي ﷺ: فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بمنى يوم التروية وصلى فيها الصلوات الخمس، وهذا من السنن المؤكدة.

3. المكوث في منى عبادة: البقاء في منى جزء من النسك، وهو في ذاته طاعة عظيمة، وفرصة للذكر والتقرب إلى الله.

منى ومكانتها في يوم التروية

منى هي وادٍ يقع بين مكة المكرمة ومشعر مزدلفة، وهي المكان الذي يبيت فيه الحجاج في يوم التروية وليلة عرفة، ثم يعودون إليها بعد النفرة من عرفة ومزدلفة للمبيت أيام التشريق ورمي الجمرات.

تضم منى عدة رموز شعائرية عظيمة:

• جسر الجمرات: حيث تُرمى الجمرات الثلاث في أيام التشريق.

• مسجد الخيف: من أشهر مساجد منى، وقد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله.

منى إذًا ليست مجرد محطة، بل مشعر مبارك له أهمية تاريخية ودينية عظيمة في الحج.

أحكام فقهية متعلقة بيوم التروية

من الناحية الفقهية، يوم التروية يتضمن مجموعة من الأحكام التي يجب على الحاج مراعاتها:

الحكمة التربوية من يوم التروية

يوم التروية يُمثل لحظة انتقالية هامة في مسيرة الحاج، فهو يتخلى فيه عن حياة الراحة ويبدأ حياة الزهد والتقشف والسير إلى الله تعالى.

1. تجسيد للنية الخالصة: يبدأ الحاج يومه بالتوجه الكامل إلى الله، ويُجدد نيته ويُخلص قلبه من كل رياء.

2. الإعداد النفسي: كما أن الجسد يبدأ رحلة شاقة، فإن النفس تبدأ رحلة أعمق من التوبة والتطهير والتهيؤ للوقوف بعرفة.

3. إحياء لروح الجماعة: يجتمع الحجاج في مكان واحد على هيئة واحدة، يتساوون جميعاً في الثياب والمنازل والهدف، ما يعزز مفهوم وحدة الأمة.

4. تجديد للعهد مع الله: التلبية المستمرة طوال هذا اليوم، التي تعني “الاستجابة الكاملة لله”، تُعد إعلانًا واضحًا بأن الحاج جاء ليُجدد عهده وطاعته لخالقه.

البعد التاريخي ليوم التروية

شهد يوم التروية على مر العصور تطورًا كبيرًا في كيفية أداء المناسك، إلا أن الروح والمعنى بقيتا ثابتتين. فمنذ أن أقام إبراهيم عليه السلام شعائر الحج، وتبعه النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ظل يوم التروية محتفظًا بمكانته الخاصة.

• في عهد الجاهلية: كانت قبائل العرب تحج، ولكن مع تحريفات وممارسات خاطئة، وكان التروية ضمن المناسك المعروفة لديهم.

• في عهد النبي ﷺ: وضح النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كيف يُؤدى هذا اليوم، فكان يبيت في منى وصلى فيها الصلوات الخمس.

• في العصور اللاحقة: استمر المسلمون في الاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، مع التوسع العمراني في منى وتيسير المناسك.

المشاعر الروحية في يوم التروية

يُعد يوم التروية لحظة انفصال عن الدنيا، ودخول في قدسية الشعائر. الحاج يترك خلفه العمل والبيت والراحة، ويستعد لأقدس أيام السنة، يُردد “لبيك اللهم لبيك”، ويبيت تحت السماء في منى، ليشعر بتواضعه الكامل أمام عظمة الله.

وهذا الشعور بالتجرد يُعيد ترتيب أولويات الإنسان، ويُحيي في قلبه القيم الكبرى من التواضع، والتسليم، والطاعة، والاعتماد على الله.

الخاتمة: يوم التروية في ميزان الإسلام

يوم التروية ليس مجرد مقدمة ليوم عرفة، بل هو يوم عبادة قائم بذاته، يحمل في طياته معاني عظيمة من الاستعداد الروحي، والطاعة الخالصة، واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم. هو نقطة التحول التي تهيئ الحاج لموسم من المغفرة والرحمة، حيث تبدأ الروح في التهيؤ لمشهد عرفة الأعظم.

يمثل يوم التروية درسًا عمليًا في الإخلاص والتخلي والتقوى، وهو شاهد حي على أن الحج ليس طقسًا بدنيًا فقط، بل تجربة وجودية وروحية تُغير الإنسان، وتربطه بالله ربطًا وثيقًا.

المراجع:

1. ابن قدامة، المغني، دار إحياء التراث العربي.

2. النووي، شرح صحيح مسلم، دار الفكر.